د. إبراهيم السكران
من وسائل استثمار وقت القراءة، ما يسمى بقراءة الجرد، وهي المطالعة السريعة للكتاب بحثي يلتقط القارئ من خلالها: هيكل الكتاب، وأسئلته الرئيسية، والتصورات العامة للكتاب.
ويحدد من خلال هذا الجرد: ما مدى احتياجه للكتاب؟ ثم أين يقع بالضبط موضع الحاجة منه؟ حتى لا يتورط بصرف قراءة دقيقة تحليلية لكتاب قد يكتشف بعد الانتهاء منه أنه كتاب هش ضيع وقته، أو لا يتلاقى مع احتياجاته. فمثل هذه الأمور لا يستطيع أن يحددها من يبتدئ الكتاب بقراءة دقيقة قبل قراءة الجرد، حيث تمثل قراءة الجرد (قراءة استكشافية مسبقة)، وهذه القراءة السريعة ليست (تصفح عشوائي) بل هي (تصفح منظم).
والقراءة الجردية كانت أحد أهم الأنماط الشائعة للقراءة لدى سلفنا، بجانب أنماط أخرى للقراءة طبعا، كقراءة الضبط والتصحيح والتأمل والحفظ الخ، وأخبارهم في القراءة الجردية منتشرة مبثوثة في كتب التراجم، ولكن بعض أهل العلم نماذج من ذلك، ومن أهم من خصص فصولاً أو استطرادات المقري التلمساني في كتابه: فتح المتعال في مدح النعال، وجمال الدين القاسمي في كتابه: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث.
ومن نماذج العلماء الذين كانت لهم قراءة بالجرد، (ابن تيمية) والمترجمون لابن تيمية ممن شاهدوه، ذكروا سرعة ابن تيمية في قرائته وكتابته، ووصف الصفدي سرعة كتابة ابن تيمية فقال (وكان ذا قلم يسابق البرق إذا لمع، يملي على المسألة الواحدة ما شاء من رأس القلم، ويكتب الكراسين والثلاثة في قعدة)، وذكر ابن رجب نموذجاً للكتب التي كتبها ابن تيمية بسرعة فقال (قد كتب الحموية في قعدة واحدة، وكتب في بعض الأحيان في اليوم ما يبيض منه مجلد).
وجاء في ترجمة الفيروز آبادي صاحب القاموس، أنه قرأ بدمشق، على ناصر الدين بن جهبل، صحيح مسلم، في ثلاثة أيام، ويقول الزبيدي في ترجمة أبي الحسن علي التوقادي، (أنه قرأ الصحيح في اثني عشر مجلسا) وهذا يؤكد على العنصرين المهمين الطلاقة في المطالعة، وعدم الكلال.
والأخبار والقصص السلفية في هذه التقنية من تقنيات الاطلاع والقراءة كثيرة جداً، وكان الهدف من هذا ذكر نماذج منتخبة من قرون الإسلام، بما يؤكد حضور نمط القراءة الجردية بين أهل العلم، وأنها ليست تقنية طارئة استحدثها المعاصرون.
معظم الأشخاص بل وحتى عدد كبير من القراء الجيدين؛ لا يعرفون أهمية القراءة التصفحية، إنهم يبدؤون الكتاب من الصفحة الأولى، ويتقدمون بجد وثبات حتى آخر الكتاب، وبدون قراءة الفهرس، إنهم في هذه الحالة يواجهون إنجاز هدف المعرفة السطحية للكتب، بنفس الوقت الذي يحاولون به فهمه، وهذا يضاعف صعوبة الكتاب.
ومن أهم الإشكالات التي تطرأ في أذهان بعض القراء هو قولهم: أننا من خلال القراءة السريعة نخشى أن لا نفهم؟!
وهذا غير دقيق، فكثير من الناس يتصور أن البطء في القراءة يثمر دوماً الفهم، وهذا صحيح جزئياً، ولكنه ليس كل شيء، بل هناك مستوى من الفهم لا يمكن إلا بالقراءة السريعة!
ولقد أثبتت التجربة أن التصورات العامة للكتاب ليست موجودة في المفردات بل في الروابط بين المفردات، وهذه الروابط لا تتضح للذهن إلا إذا تم وصلها بسرعة، فأما مع الانفصال الزمني بينها فإن الذهن يشرد.
والهدف من عرض نمط القراءة هذا هو المساهمة في بناء المعرفة والعلم في المجتمع المسلم، وتخيل معي لو أن طالب علم قرر جرد مطولات الاسلام في فترة وجيزة، مثل: الكتب الستة، وتفسير الطبري، وتفسير القرطبي، والتمهيد لابن عبد البر، وفتح الباري لابن حجر، والمغني لابن قدامة، ونهاية المطلب للجويني، ومجموع فتاوى ابن تيمية، وتاريخ الاسلام للذهبي، فماذا سيحصل من: التصورات الشرعية الكلية، ومظان المسائل، وهياكل الفنون، ومواطن الاتفاق والاختلاف؟ّ
بل هل يسمح العمر بقراءة مثل هذه المطولات إلا بنمط القراءة الجردية التي طبقها السلف؟
العمر قصير، ومطولات الإسلام كبيرة، وفيها أمتع ما في الدنيا، وأخشى أن تكون أوقات شباب الإسلام الذين عليهم الرهان تلتهمها مواقع التواصل الاجتماعي، والعلم والثقافة سواعد الدعوات.
من كتاب مسلكيات
اترك تعليقاً