أ.د. عبد الكريم بكار
الحمد لله والصلاة والسلام على إمام الهدى ونبي الرحمة، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين. وبعد:
قد كان لأمة الإسلام تاريخ حافل بالإنجازات الكبرى في شتى المجالات، وأنه كان مقترنا دائماً بالقراءة وحب العلم والشغف بالمعرفة، وكثرة العلماء والباحثين في ميادنها المختلفة.
التعلم مدى الحياة:
إن الذي يدعو الإنسان إلى التعلم، هو العلم نفسه، والتوغل في حقول المعرفة، يتيح إمكانات ومجالات جديدة، ويولد دوافع جديدة للتقدم، والمثقف الذي يرغب في الحفاظ على قيمة ثقافته وكرامتها، مطالب بأن يعيد تكوين ثقافته على نحو مستمر ومتجدد.
إن العقل البشري، يميل دائما إلى تكوين عادات لعمله، ومع مرور الوقت تشكل نوعا من البرمجة له. وكلما كانت ثقافة الإنسان ضحلة، ضاقت مساحة تصوراته، فلا بد من دوام الاطلاع والمتابعة؛ حتى لا يتدهور ما لدينا من معرفة، وحتى لا نغرق في الضلالات والأوهام.
والكتاب ما زال هو الوسيلة الأساسية للتثقيف الجيد، حيث نمارس حريتنا كاملة في اختيار ما نحتاج إليه، والقراءة أهم وسيلة لاكتساب المعرفة، فإن علينا ألا نبخل بأي جهد يتطلبه توطوين القراءة في حياتنا الشخصية وفي حياة الأمة عامة؛ فالمسألة ليست ترفيهية، وإنما هي مسألة مصير.
ولكي نقوم بإشاعة ثقافة (اقرأ) علينا القيام بالتالي:
1- الدوافع:
فعلى الأسر المتعلمة والمدارس والمكتبات العامة تشجيع الناشئة على القراءة، والمعاونة على توفير الكتاب.
2- تكوين عادة القراءة:
البدايات دائما شاقة، وذلك لأن نتائج الجهد تكون في البداية ضعيفة، والاستفادة من الوقت غير مرضية؛ فالواحد منا يشعر أنه أ/ضى وقتا طويلا من أجل أشياء لا قيمة لها. ولكن يهون الأمر حين نعد البداية مثل تسخين السيارة ثم الانطلاق شيئاً فشيئاً.
وعلى الآباء تكوين عادة القراءة لدى أبنائهم وغرس روح النظام والترتيب والجدولة في حياة أبنائهم اليومية.
وذلك بسرد حكاية أو قراءة قصة مما يتمتع به الطفل، ويعطيه درساً في اللغة والتواصل والقيم أيضاً، فوجود مكتبة جيدة في المنزل سيساعد مساعدة كبيرة في توجيه الطفل نحو القراءة.
إن عادة القرءاة لن تتكون لدى الإنسان إلى عندما يشعر بشيء من المتعة واللذة عندما يقرأ، وهذا لن يكون إلا حين تكون القراءة عبارة عن نوع من الاكتشاف، ونوع من تنمية العقل، وتوسيع قاعدة الفهم، وإن قابلتنا للتعلم، تتحول بفضل ممارسة القراءة إلى براعة، كما أنه يمكن للتكرار والتمرين أن يجعلا من حب المعرفة طبيعة ثانية لنا.
3- توفير الكتاب: من خلال إقامة المعارض وتنشيط سوق الكتاب المستعمل والعمل على إصدار طبعا رخيصة الثمن ومدعمة لإمهات الكتب والمراجع. وحث الأثرياء على تخصيص مبان كمكتبات، وسيظل هذافي حيز الأمنيات ما لم نعرفة ما يتمتع به الكتاب من أهمية ومحورية في تغيير أحوالنا والارتقاء بأوضاعنا.
4- توفير وقت للقراءة: المشكلة الأساسية إلى الذين لا يقرؤون ويعتذرون بأنه ليس لديهم وقت للقراءة، ربما أنهم لا يملكون أية أهداف، أو أية أولويات، يضغطون بها على حاضرهم، ووجهون من خلالها جهودهم.
لو أن الواحد منا سأل نفسه: هل العمل الذي أقوم به الآن له أهمية أو أولوية على غيره؟ لوجد كل واحد منا الوقت الكافي للقيام بالعديد من الأعمال النافعة، ولا ختفى الكثير من الفوضى والكسل اللذين يغلفان حياة المسلمين اليوم!. إن تغيير السلوك في التعامل مع الوقت، يحتاج إلى وقت، وعلينا أن نثابر ولا نيأس.
لماذا نقرأ:
تتفوات الناس في أهدافها العامة للقراءة، فمنهم من يقرأ من أجل التسلية وملء الفراغ، وهذا يدفعه إلى قراءة أي شيء يقع تحت يده، ومنهم من يقرأ من أجل الاطلاع على معلومات في مجال معين، ومنهم من يقرأ لتوسيع قاعدة الفهم وهذا أكثر أنواع القراءة فائدة، وهي تلك القراءة التي تستهدف امتلاك منهج قويم في التعامل مع المعرفة، وتكسبنا عادات فكرية جديدة، وتزيد مرونتنا الذهنية، وإن مكاسبنا من وراء كتب تحسن الوضع الفكري لدينا، فهي مثل مكاسب من أعطي مفتاح منجم من الذهب!.
أنواع القراءة:
أولاً – القراءة الاكتشافية:
هناك أسباب كثيرة، تدعونا إلى عدم الاستعجال في شراء أي كتاب، مهما كان موضوعه أو ثمنه، وذلك لنكتشف مدى حاجتنا إليه، وذلك بقراءة مقدمة الكتاب، وقراءة فهرس الموضوعات، واكتشاف التصور الكلي للكتاب، والاطلاع على فهرس المصادر والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف، والاطلاع على ملخصات الفصول إن وجدت وإلقاء نظرة سريعة على فصول الكتاب، وقراءة بعض صفحات أو فقرات من الكتاب، والقارئ الممارس يكون لديه (ذائقة معرفية) تمكنه من معرفة مستوى الكتاب من خلال الخطوات السابق ذكرها، ويستطيع تقدير فائدة الكتاب وحاجته إليه، ويدرك كذلك ما قد يحتاجه من من مراجع أو شروح، تساعد على فهمه.
إن إهمال القراءة الاستكشافية أو التصحفية، قد أدى بأعداد لا تحصى بأن يشتروا كتباً، لا تستحق الاقتناء والقراءة، لأنها لا تساوي ثمن المداد الذي كتبت به، فيشترون كتبا لا يستطيعون الاستفادة منها، أو لا تهمهم!
ثانياً – القراءة السريعة:
هناك كتب تقرأ قراءة سريعة لالتقاط النافع منها، وكبار علمائنا كانوا يدركون هذه الوضعية، فكما كانت لهم جدية نادرة في المثابرة على قراءة الكتب الصعبة، كذلك كانت لهم قراءتهم السريعة. ويذكر في هذا السياق أن ابن حجر العسقلاني قرأ صحيح مسلم في خمسة مجالس، في نحو يومين وشطر يوم، وقرأ النسائي الكبير في عشرة مجالس، مدة كل مجلس منها نحو أربع ساعات، وقرأ في مدة إقامته بدمشق، وكانت شهرين وثلث شهر تقريبا قريباً من مئة مجلد. وقرأ الخطيب البغدادي على كريمة (إحدى راويات الحديث) صحيح البخاري في خمسة أيام.
ويقول ابن الجوزي عن نفسه: إنه لو قلت: إنني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعدُ ما زلت في طلب العلم!.
والسرعة في القراءة تقتضي توجيه الحواس كافة وحصرها لتصبح العلاقة ثنائية بين العين والمخ، أو بين البصر والعقل.
ثالثا: القراءة الانتقائية:
حين يتجه المرء إلى التعمق في موضوع بعينه، فإنه يكون بحاجة إلى تتبع العديد من المراجع والكتب المتنوعة للعثور على مادة متجانسة، تساعده على تكوين صورة جيدة عن الموضوع الذي يهتم به.
رابعاً: القراءة التحليلية:
وهي أفضل أسلوب يمكن للمرء أن يتبعه، فهي لا تعني الاطلاع والاستفادة فحسب، بقد ما تعني نوعا من الارتقاء بالقارئ إلى أفق الكاتب الذي يقرأ له، ومحاولة النفاذ إلى معرفة شيء من مصادره وخلفيته الثقافية، بل وحواره ونقده والوقوف على جوانب القصور في الكتاب.
وللقارئ الجيد سمات: ومنها:
1- المثابرة على القراءة، والحماسة في متابعته، إن الذين أنجزوا انجازات عظيمة في التاريخ كانوا دائما يتحلون بصبر لا يعرف النفاد، وإن أهم عامل في النتائج التي سنحصل عليها هو كمية الجهد ومقدار الوقت الذي نبذله في سبيل تحقيقها والوصول إليها.
ما يحتاج إليه كثيرا من الناس هو الشرارة الأولى حتى يبدأ مسيرة القراءة، وبعد ذلك سيؤدي التراكم المستمر لمعلوماته إلى إحساسه بمباهج المعرفة، وسينمي ذلك فيه الشعور بالثقة والاعتزاز، وسيضيف إلى حياته معنى جديداً لا يضيفه إلا العلم، وسيمثل كل ذلك الوقود المطلوب لمتابعة رحلة القراءة!.
– القارئ الجيد يملك من المرونة الذهنية ما يتمكن به من الاستفادة من القراءة والنمو المعرفي.
3- القارئ الجيد، يقرأ للمبدعين في تخصصاتهم؛ فمن ينابيعهم يغرف الألوف من الكتَّاب، ومن المفيد الاطلاع على أمهات الكتب والمراجع والمعاجم والشعر والقص البارع.
4- من المهم للقارئ الجيد التعرف على كيفية التعامل مع الكتب التي يعزم على قراءتها، من حيث السرعة والتخليص والتعليق.
أنواع الكتب:
من أنواع الكتب الكتب التي يشكل واحداً بين عشرة آلاف، وهو النوع الذي لا ينضب محتواه، وكلما عدت إليه شعرت أنه ينمِّيك، وكأنه ينمو مع، فتكشف فيه أشياء جديدة كلما عدت إليه، يجد الفاقهون من المسلمين مثل هذا في القرآن الكريم، فهو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تستنزف عطاءاته.
وهذا النوع من الكتب، يتطلب من القارئ القراءة على نحو مستمر، حتي يؤهل نفسه للارتقاء إلى مستواه.
ولا شك أن عملية القراءة والتعمق المعرفي، شاقة ولكن ما دام الهدف هو المزيد من الفهم والعمق المعرفي، فيجب دفع الثمن عن طيب خاطر.
ومما يساعد كذلك على فهم بعض الكتب الرجوع إلى الموسوعات، وهي كثيرة اليوم، وكذلك المعاجم ضرورية لكل قارئ.
وعلى القارئ الجيد الاستفادة من المؤلف، وذلك بتلخيص ما قرأه في عبارات وفقر محددة، بأسلوبه الخاص، حيث أننا إذا رددنا عين الكلمات والجمل فنكون اعتمدنا على الحفظ بدل الفهم؛ ولا ريب أن الهدف الأساسي من قراءة أي كتاب، ينبغي أن يكون الاستفادة والارتقاء في معارج العلم والفهم.
خامساً- القراءة المحورية:
القراءة المحورية، هي تلك القراءة التي تستهدف الوقوف على معلومات وأفكار ، تتعلق بموضوع معين، وذلك بالاطلاع على المصادر والمعلومات التي تقدم مادة أو خلفية أو رؤية تساعد في إنجاز العمل.
ومما سبق نجد أن القراءة التحليلية، تستهدف استخراج كل ما يمكن استخراجه من الكتاب المقروء؛ أما القراءة المحورية، هو استخراج ما يخدم موضوع يستهدف القارئ بناءه، ولذا فقد لا يقرأ القارئ قراءة محورية سوى فصل أو باب أو صفحة من كتاب، ويتجاوز الباقي.
إن التخصص هو أن يبني الإنسان معرفة في موضوع ما، وأن يكتفي بالمعرفة العامة في باقي الموضوعات، بأن يكون لدينا عدد كبير من المتخصصين المنفتحين على التخصصات الأخرى، ويمثل كل منها امتداداً طبيعياً لغيره.
وإن باستطاعة كثيرين منا أن يجعلو من بيوتهم ومكاتباتهم وحدات مصغرة للبحث العلمي؛ وأن أي قارئ متوسط الذكاء يمكنه خلال خمس سنوات من القراءة الجيدة والجادة في (فقه الزكاة) أو(فقه الصلاة) أو(التأمين) أو(القياس) أو(اجتهاد الصحابة). أن يصبح حجة ومرجعاً على مستوى قطر أو منطقة في موضوع من هذه الموضوعات وأشباهها، وسيتمكن من إضافة أفكار كثيرة، وبلورة مسائل عديدة من مسائله ..
وسوف نجد أمامنا مئات الشباب الذين أصبحوا مراجع علمية موثوقة في مئات الموضوعات الشرعية.
إن أصعب نقطة هي البداية، ولنكن على ثقة أننا سندهش من أنفسنا عندما ننطلق! ولن يحتاج الأمر إلى تعطيل علاقاتنا الاجتماعية، إن الأمر يحتاج إلى الالتزام التزاماً جاداً ودقيقاً بقراءة ساعتين يومياً مدة خمس سنوات على نحو متواصل، وستكون هناك – بإذن الله تعالى – نتائج باهرة، هي فوق ما نظن، وأكثر مما نؤمل، وسوف ننال من القراءة أكثر كلما كان وعينا بما نريده من ورائها أكثر نضجا وتنظيما.
اترك تعليقاً